قاد بدهاء وحنكة معركة الاستقلال ، صحيح انها لم تكن كاملة ، لكنها كافية لإيقاف سيل الدماء ، واعادة البناء .
يخطأ من يعتقد ان بورقيبة رجل خائن او مريض او ديكتاتوري او حارب الاسلام وكان مستبدا .
الحقبة التي عاش فيها بورقيبة ، أنصفته لأنه كان فعلا ندا لها ، ولن ندخل في جدالات سلسلة الاغتيالات والمصائب التي شهدتها البلاد في فترة تقلده الرئاسة او نأخذ كل ما قيل من المقربين عنه مأخذ الجد لأنها حقبة الى الان يسودها الغموض وتضاربت فيها الشهادات وتحول فيها الظالم الى ضحية والضحية الى مستبد ، ولن نجادل كثيرا لكن دعنا نختصر ذلك من زاوية أخرى .
لنتفق اولا ان لبورقيبة نظرة ثاقبة تستشرف المستقبل ، قلما نجدها لدى الزعماء في حقبته ، ومن بينهم الزعيم المصري جمال عبد الناصر .
من أشهر خطابات بورقيبة والتي تكشف لنا عن اتقانه التام للعبة العصر انذلك وهي لعبة النفاق ، لعبة لا يتقنها الكثيرون لكنها كافية بأن تجنب البلاد مصائب كبيرة ، هي دعوته للتونسيين الى بناء وطنهم ، قطع كلمة للزعيم الليبي معمر القذافي في خطابه الشهير الذي هاجم فيه امريكا وأوروبا ، وتدارك الامر وتساءل لحظتها كيف يمكن ان نعلن الحرب ونحن نستورد قطع الجرار لنحصد ونأكل ، في حين قطع الغرب اشواطا كبيرة من التقدم الصناعي والتكنولوجي ، اليس علينا ان نجهز انفسنا ، هل يعقل ان نعادي من هو أقوى منا ومتفوق علينا ؟!.
هل تعلمون انه اتهم بعد الخطاب بأنه عميل للغرب ، اجتمع العرب الفاشلون في تلك الحقبة واتهموه بالعمالة وهم لا يملكون ردارا لحماية حدودهم ؟!
والاغرب انه في تونس حاربوه واتهموه بمعاداة الاسلام في حين انه كان يحميه من الاندثار ، وكانت المرحلة الاولى التي يقودها هي تغيير العقلية والعقول والارتقاء بها نحو الحداثة مع الحفاظ على مقومات الدين الاساسية والحرية في المعتقد ونبذ العنف والتطرف وهي أحد اهم مقومات النجاح وبناء الدولة الحديثة.
بورقيبة لم يكن مخطئا حينما وضع موارد الدولة في التعليم وتعميمه ونشره ، فالمرحلة التي عاصرها دقيقة وهي نقطة التحول من مجتمع يقبع تحت خط الفقر والجهل والشعوذة الى مرحلة الحداثة و التحرر الفكري الذي سيؤسس لمراحل من التطور والرقي الحضاري.
اليوم وبعد عقود من الزمن ، مازالت فلسطين تقبع تحت سيطرة المحتل وتعيش على وقع المساعدات ، يشرد اهلها ويقتل هباء ، كان للمحتل ودول اوروبا وامريكا مقترح يسيل له اللعاب وهو القبول بفكرة التقسيم ، المقترح قدم رسميا للعرب وسارع بورقيبة الى قبوله ، فيما رفضه العرب واتهموه مجددا بالعمالة ، ولا احد فهم ماذا كان يدور في عقل بورقيبة ، فلو قبل العرب المقترح وبدأت فلسطين في بناء جيشها ودولتها الحديثة وجهز العرب انفسهم بمواردهم الذاتية واتفقوا لكانت اليوم هي من تقود التوسع وتغير الخريطة ، لكن هيهات " لا يغير الله من قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وفي انفسنا الى اليوم كميات من الحقد لكل ناجح والدول الكبيرة لا تقبل ان تقاد من الدول الصغيرة حتى ولو كان خلاصهم في ذلك القائد ، فكانت النكسة تلو النكسة تعصف بنا وفهم الغرب واوروبا انه علينا ان نبقى تحت رحمتهم الى الابد وانتم تعلمون ماحصل منذ ذلك التاريخ والى اليوم ، لكن لا احد خرج وأنصف بورقيبة بل الى اليوم يقدحون في شخصه ويلفقون له التهم ، في حين انه كان حكيما وصاحب نظرة استشرافية قلما نجدها في اي زعيم عربي.
خلاصة القول ، بورقيبة كان يطبق سياسة المراحل لبناء الدولة الحديثة والخروج عن التبعية المطلقة للغرب ، خلق اجيال قوية متمكنة من المعرفة وهي فترة طويلة ، ثم الانطلاق في استرداد ما يمكن استرداده.
الرسالة مشفرة ، لكنها هدمت في منتصف الطريق وجاء أصحاب البطون فهدموها .
س-م