شهدت تونس في 17 ديسمبر 2010 انطلاق شرارة من أهم الأحداث السياسية والاجتماعية في تاريخها الحديث، حيث أقدم الشاب محمد البوعزيزي على إشعال نفسه في مدينة سيدي بوزيد احتجاجًا على الظلم والقمع الذي تعرض له. كانت هذه الحادثة الشرارة الأولى لاندلاع ثورة شعبية أطاحت بنظام زين العابدين بن علي في 14 جانفي 2011، لتصبح تونس مهد "الربيع العربي" ورمزًا للتحول الديمقراطي في العالم العربي. لكن، بعد مرور أكثر من عقد على هذه الثورة، تجد البلاد نفسها غارقة في أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، وسط تساؤلات حول ما حققته الثورة وما أخفقت فيه.
آمال الثورة... الحرية والكرامة
كانت المطالب الرئيسية للثورة التونسية تتمثل في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. نجحت الثورة في تحقيق بعض المكاسب، أبرزها التخلص من نظام استبدادي وإقامة نظام ديمقراطي تعددي يسمح بحرية التعبير وتنظيم الانتخابات. لكن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي كانت أحد المحركات الرئيسية للثورة لم تتحسن بالقدر المتوقع، بل تفاقمت في بعض الجوانب، مما وضع البلاد في حالة من التخبط السياسي والاقتصادي.
الاقتصاد قبل وبعد الثورة... مقارنة نسب النمو
عشية الثورة، كان الاقتصاد التونسي يسجل معدلات نمو مقبولة نسبيًا، حيث بلغ معدل النمو في عام 2010 حوالي 3.5%، مدعومًا بقطاعات مثل السياحة، الزراعة، والصناعات التحويلية، بالإضافة إلى قطاع الفسفاط الذي كان من أهم مصادر العملة الصعبة للبلاد. ولكن بعد الثورة، تراجع الأداء الاقتصادي بشكل حاد بسبب عدم الاستقرار السياسي وتدهور البيئة الاستثمارية.
في عام 2024، تشير التقديرات إلى أن نسبة النمو الاقتصادي بالكاد تصل إلى 1%، إن لم تكن أقل. هذا الانكماش الحاد يعكس تراجع الإنتاجية في معظم القطاعات الحيوية، فضلًا عن تفاقم أزمة الديون وتدهور قيمة الدينار التونسي. وبينما كان يُنتظر أن تحقق الثورة قفزة نوعية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن الواقع يشير إلى أن البلاد تواجه اليوم تحديات أعمق مما كانت عليه قبل عام 2011.
تراجع إنتاج الفسفاط... من الازدهار إلى الأزمة
قطاع الفسفاط كان أحد ركائز الاقتصاد التونسي قبل الثورة، حيث كانت تونس تحتل مركزًا متقدمًا عالميًا في إنتاج الفسفاط. في عام 2010، سجل إنتاج الفوسفات حوالي 8 ملايين طن سنويًا، وكان هذا القطاع يساهم بشكل كبير في توفير العملة الصعبة وتوفير فرص العمل. لكن بعد الثورة، شهد القطاع تراجعًا حادًا نتيجة الإضرابات المتكررة، الفساد، وسوء إدارة الموارد.
بحلول عام 2024، انخفض إنتاج الفسفاط إلى حوالي 3.5 ملايين طن فقط، وهو ما يمثل تراجعًا كارثيًا مقارنة بعام 2010. هذا الانخفاض أثر سلبيًا على الاقتصاد الوطني، حيث فقدت تونس حصصًا كبيرة من السوق العالمية لصالح منافسين آخرين مثل المغرب.
تدهور خدمات النقل والبنية التحتية
من بين التحديات الأخرى التي تفاقمت بعد الثورة هو تراجع خدمات النقل والبنية التحتية. كانت تونس قبل الثورة تتميز بشبكة نقل عامة مقبولة نسبيًا، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت انهيارًا ملحوظًا في هذا القطاع. القطارات والحافلات التي كانت تعمل بكفاءة نسبية أصبحت تعاني من تأخر مستمر، نقص في الصيانة، وارتفاع في التكاليف. هذا التدهور أثر بشكل مباشر على حياة المواطنين والاقتصاد، حيث أصبح التنقل أكثر تكلفة وأقل كفاءة، مما زاد من معاناة الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
ارتفاع معدلات البطالة
كان معدل البطالة في تونس عام 2010 حوالي 13%، وهو معدل مرتفع نسبياً لكنه كان مستقرًا. بعد الثورة، شهدت البطالة ارتفاعًا كبيرًا نتيجة تقلص الاستثمار الداخلي والخارجي، وتراجع نشاط القطاعات الحيوية مثل السياحة والصناعات التحويلية. في عام 2024، تشير التقديرات إلى أن معدل البطالة تجاوز 18%، مع تسجيل نسب أعلى بين الشباب وخريجي الجامعات، مما يعكس فشل الحكومات المتعاقبة في توفير حلول حقيقية لمشكلة البطالة.
استمرار نهب الثروات
من أبرز الانتقادات الموجهة إلى الوضع الحالي في تونس هو استمرار نهب الثروات الوطنية بعد الثورة، تمامًا كما كان الحال قبلها. على الرغم من الشعارات التي رفعت خلال الثورة حول استرجاع الثروات الوطنية ووضع حد للفساد، إلا أن الواقع يشير إلى أن الفساد استمر وربما تفاقم في بعض المجالات. الثروات الطبيعية مثل الغاز والبترول والفسفاط ما زالت تُدار بطريقة تفتقر إلى الشفافية، مما يثير استياء المواطنين الذين يشعرون بأنهم لم يستفيدوا من خيرات بلدهم.
بين الثورة والمآزق
لقد كانت ثورة 17 ديسمبر 2010 نقطة تحول هامة في تاريخ تونس، حيث فتحت الباب أمام الحرية والديمقراطية. ولكن، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، يبدو أن البلاد لا تزال تواجه تحديات هائلة تعيق تحقيق أهداف الثورة. تراجع نسب النمو، انهيار إنتاج الفسفاط ، تدهور خدمات النقل، ارتفاع البطالة، واستمرار نهب الثروات هي كلها مؤشرات على أن تونس لم تحقق بعد التغيير الذي طالبت به الثورة.
لذلك، تحتاج تونس اليوم إلى مقاربة شاملة تقوم على إصلاحات جذرية تعالج الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، وتضع حداً للفساد وسوء الإدارة. دون ذلك، ستظل البلاد عالقة في دائرة الأزمات، وستبقى مطالب الثورة مجرد شعارات لم تتحقق على أرض الواقع.
🔶س. م